الأساس الجيوديزي الحديث في سوريا
المقدمة:
تُعدّ شبكة الإحداثيات الجيوديزية البنية التحتية الأساسية التي تُعنى بقياس وفهم خصائص سطح الأرض بدقة عالية. وتُعتبر هذه الشبكة ركيزة حيوية لكافة الأنشطة الهندسية والمساحية في أي دولة، حيث تعتمد عليها مشاريع التخطيط العمراني، والبنية التحتية، وإدارة الموارد الطبيعية، وضمان حقوق الملكية العقارية.
في سوريا، تأسست شبكة الإحداثيات الجيوديزية منذ ما يقارب القرن على يد جهات متعددة (فرنسية، روسية، وسورية)، مستخدمة تقنيات تقليدية كانت ملائمة لوقتها. ومع ذلك، تعاني الشبكة الحالية من تقادم في تقنيات الرصد والحسابات، وتفتقر إلى التجانس، كما أنها تغطي فقط نحو ثلثي الأراضي السورية، مما يجعلها غير قادرة على تلبية متطلبات العصر الحديث.
مع التطور السريع في تقنيات تحديد المواقع (مثل GPS وRTK) والاعتماد المتزايد عليها في مختلف القطاعات، أصبحت الشبكة الحالية تعاني من ضعف الدقة ونقص التكامل مع الشبكة العالمية. هذا القصور التقني يمثل تحدياً مباشراً أمام جهود إعادة الإعمار في سوريا، حيث أن غياب شبكة دقيقة وحديثة يؤدي إلى تضارب في الإحداثيات، مما ينعكس سلباً على مشاريع البنية التحتية الكبرى، ويعرقل استثمارات الشركات الأجنبية، ويؤثر على ثقة المواطنين في ضمان حقوقهم العقارية.
يهدف هذا التقرير إلى تسليط الضوء على الإشكاليات الرئيسية في شبكة الإحداثيات الحالية، مع تقديم مقترح لإعادة إنشاء شبكة الأساس الجيوديزية السورية باستخدام أحدث التقنيات وربطها بالشبكة العالمية. كما يطرح التقرير خطة انتقالية تجمع بين الشبكة الحالية والمحدثة لضمان استمرارية العمل الهندسي والمساحي، مع تحديد الآليات الزمنية والقانونية لإلغاء اعتماد الإحداثيات القديمة بشكل تدريجي، واعتماد الإحداثيات المحدثة كمرجعية رسمية وقانونية.
الوضع الحالي:
تأسست الشبكة الجيوديزية المساحية في سورية من قبل عدة جهات (فرنسية، روسية، سورية) منْذ قرابة قرن تقريباً. تعتبر الشبكة قديمة من ناحية تقنيات الرصد والحسابات وغير متجانسة وتغطي ثلثي الأراضي السورية فقط، الشكل (1).
نلخص إشكاليات الشبكة الجيوديزية السورية الحالية بالنقاط التالية:
- تعدد مصادر الأساس الجيوديزي وتنفيذه من جهات مختلفة وعلى فترات زمنية مختلفة.
- الأخطاء التي يحملها الأساس الجيوديزي منذ تأسيسه على يد المحتل الفرنسي مما ينعكس على جودة الاحداثيات في بعض الأماكن.
- عدم توفر معاملات انتقال محلية دقيقة وموثوقة بين الاحداثيات المستندة إلى الشبكة الجيوديزية الحالية والاحداثيات التي توفرها الأنظمة الملاحية الفضائية العالمية GNSS وهو الأمر الذي يعيق عملية تكثيف هذا الأساس باستخدام التقنيات الحديثة في المسح الطبوغرافي والاستفادة من الدقة العالية.
- ضعف تغطية الأساس الجيوديزي لمساحة سورية وعدم كفاية نقاط الشبكة سواءً في الأماكن الخالية أو الأماكن التي تعرضت فيها نقاط الشبكة للتخريب أو الضياع قبل وخلال سنوات الحرب.
- عدم صيانة الشبكة الجيوديزية السورية أو تحديثها منذ تأسيسها وحتى اليوم.
- التعامل مع أنظمة ارتسام وإحداثيات مختلفة في سوريا بحسب الجهات الدارسة والمنفذة وهذا يؤدي إلى صعوبة الاستثمار المشترك لبيانات الجهات المختلفة.
الشكل (1) الشبكة الجيوديزية السورية
التجارب الإقليمية والدولية:
في سياق تحديث الشبكات الجيوديزية، قامت العديد من الدول بتحديث شبكاتها الجيوديزية، سواء استجابةً للنمو التقني السريع أو لمعالجة التحديات الناتجة عن الحروب والنزاعات.
فعلى سبيل المثال، أنشأت الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية (GEOSA) في المملكة العربية السعودية شبكة الإحداثيات الجيوديزية السعودية:
KSA-CORS (Kingdom of Saudi Arabia Continuously Operating Reference Station)،
والتي تُعد مثالاً مميزاً على التقدم في هذا المجال.
أما في تركيا، فقد طورت الشبكة الجيوديزية التركية:
the Turkish RTK CORS Network called TUSAGAAktif،
التي توفر مرجعاً جيومكانياً عالي الدقة لدعم المشاريع الهندسية والتنموية.
أهداف المشروع:
1. بناء الأساس الجيوديزي الحديث في سوريا وتسميته CORS-SY على أسس علمية صحيحة وبما يتوافق مع التطورات التقنية والمنْهجية.
2. اعتماد إطار أرضي مرجعي دولي ITRF مرجعاً ديناميكياً
3. اعتماد نظام اسقاط متوافق مع الـ UTM لتسهيل العمل المساحي وفق التقنيات الحديثة
4. ربط الشبكة الجديدة بالشبكة الجيوديزية القديمة لإيجاد معاملات تحويل دقيقة وموثوقة في المرحلة الانتقالية بين الاحداثيات القديمة والاحداثيات الجديدة المعتمدة لكل المناطق في سوريا.
الخطة الأولية للحل:
المرحلة الأولى: إنشاء محطات رصد مرجعية مستمرة CORS في كل المدن السورية.
المرحلة الثانية: حساب إحداثيات دقيقة للمحطات واعتمادها.
المرحلة الثالثة: القيام بحملة قياسات على نقاط الأساس الجيوديزي القديم لإعطائها إحداثيات جديدة وفق النظام المحدث. CORS-SY
المرحلة الرابعة: حساب معاملات التحويل بين أنظمة الاحداثيات المتنوعة في سوريا وتعميمها بعد اعتمادها بشكل رسمي.
الجدوى الاقتصادية والفوائد:
الفوائد الاقتصادية: تشجيع شركات التطوير العقاري للعمل في سوريا باستخدام التقنيات الحديثة، حيث يُسهم النظام المقترح في تحسين ظروف عمل الشركات بشكل كبير من خلال توفير بيانات دقيقة وموثوقة للإحداثيات، مما يقلل من الأخطاء الهندسية والتكاليف المرتبطة بها. وبدون هذا النظام، قد تواجه الشركات صعوبات في استخدام تقنيات تحديد المواقع الحديثة مثل GNSS وRTK بفعالية.
الفوائد الاجتماعية: تنمية الثقة في الأعمال المساحية نتيجة الشفافية والموثوقية التي يوفرها نظام الإحداثيات الجديد، حيث ستصبح كافة الأنشطة الهندسية والمساحية موحدة وتستند إلى نظام دقيق معتمد قانونياً. في حال عدم تطبيق الفكرة المقترحة، قد يستمر اعتماد الإحداثيات القديمة التي تعاني من نقص الدقة، مما يؤدي إلى مشكلات في تحديد حقوق الملكية، وزيادة النزاعات القانونية، وانعدام الثقة في نتائج الأعمال المساحية.
الفوائد العلمية: إشراك طلاب الدراسات العليا في سوريا في العمل على المشروع، مما يعزز التعليم العملي ويرفع مستوى الأبحاث العلمية في مجالات الجيوديزيا والمساحة. بالإضافة إلى ذلك، يوفر المشروع فرصة لنشر الأبحاث حول تطوير الشبكات الجيوديزية، مما يضع سوريا على خارطة الدول المساهمة في التطوير العلمي في هذا المجال.
التحديات المحتملة:
1. عدم الحصول على تمويل لإنشاء الشبكة: CORS-SY
● من الممكن أن يتم تمويل المشروع من قبل الحكومة السورية باعتباره استثماراً استراتيجياً يساهم في إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية.
● بدلاً من ذلك، يمكن للمجلس العملي السوري البحث عن تمويل خارجي من منظمات دولية أو مؤسسات تنموية تهتم بدعم البنية التحتية للدول النامية. في هذه الحالة، يحتاج المجلس إلى صيغة تفاهم رسمية مع وزارة الإدارة المحلية أو الجهات الحكومية ذات الصلة، تؤهله للتواصل مع الجهات الدولية وجلب التمويل اللازم للمشروع.
2. نقص الكوادر المؤهلة على الأرض:
● لتجاوز هذا التحدي، يمكن للمجلس تنظيم دورات تدريبية تقنية متخصصة في مراحل المشروع الأولى لإعداد كوادر محلية مؤهلة.
● من الممكن أيضاً الاستعانة بخبراء دوليين خلال المرحلة التأسيسية لنقل المعرفة إلى الكوادر المحلية وضمان استدامة المشروع.
3. تحديات الوصول إلى بعض المناطق بسبب الأوضاع الجغرافية أو الأمنية:
● الحل الأمثل هو تنفيذ المشروع على مراحل، بحيث يتم البدء بالمناطق الآمنة والقابلة للوصول، على أن يتم التوسع إلى باقي المناطق تدريجياً بعد استقرار الأوضاع الأمنية.
التوصيات:
إن المجلس العلمي السوري يبدي استعداده ليساهم في هذا المشروع الوطني ويدعم:
- تشكيل لجنة علمية تتولى إدارة المشروع والإشراف على تطوير الشبكة.
- إعداد برامج تدريبية للكوادر المحلية لتمكينها من تنفيذ المشروع.
- التعاون مع المؤسسات الأكاديمية والمنظمات الدولية والهيئات الجيوماتية في دول الجوار.
الخاتمة:
يعد تحديث شبكة الإحداثيات الجيوديزية السورية خطوة أساسية وضرورية كأساس للدراسات وتنفيذ المشاريع الهندسية في سوريا. هذا المشروع يمثل مبادرة وطنية استراتيجية تهدف إلى تحسين البنية التحتية الجيومكانية وتعزيز التنمية المستدامة في البلاد. كما أنه استثمار طويل الأمد لدعم إعادة الإعمار، وتحسين التخطيط العمراني، وضمان حقوق المواطنين العقارية.
يؤكد المجلس العلمي السوري على أهمية هذا المشروع كحجر زاوية لتحقيق التنمية المستدامة، ويأمل أن يكون هذا التقرير خطوة أولى نحو رؤية علمية متكاملة للنهوض بسوريا نحو مستقبل أكثر استقراراً وتطوراً.
المؤلفون:
أ.د. م. عبد الرزاق رمضان
د. م. محمد علي سمونة
د. م. حسن جبريني
د. م. بلال زقزوق
د. م. رامي بدوي
د. م. سامي مقدسي
د. م. سامر كرم