الصورة لقطة من داخل كلية الإعلام في جامعة دمشق، من تصور سامي رعد، و متاحة للاستخدام المفتوح على منصة Pexels
إطار استراتيجي لإشراك الأكاديميين السوريين في المهجر في إعادة بناء التعليم العالي في سوريا
الخلاصة:
تسببت الحرب في سوريا في إحداث نقص في الكوادر التعليمية ضمن الجامعات العامة والخاصة، مما أثر بشكل كبير على جودة التعليم العالي. يقترح هذا التقرير على وزارة التعليم العالي مشروعاً يهدف إلى:
١- وضع إطار عملي لدعم وزارة التعليم العالي في تقييم احتياجات الجامعات وسد النقص في الكوادر التدريسية عبر الاستفادة من خبرات الأكاديميين السوريين في المهجر عبر وضع آليات تعاون عن بعد.
٢- تسهيل نقل المعرفة وتحديث المحتوى الأكاديمي.
٣- تعزيز الترابط بين الكوادر الداخلية والخارجية؛ مما يمهد الطريق لشراكات أكاديمية مستدامة.
يعالج مقترح هذا المشروع عدة تحديات رئيسة، منها نقص التمويل الداخلي، وضعف البنية التحتية الرقمية، وصعوبة التنسيق بين الأكاديميين داخل سوريا وخارجها. ولتحقيق ذلك يتضمن المشروع الخطوات الآتية:
(1) وضع خطة تنفيذية بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والجهات المعنية.
(2) إنشاء شبكة تواصل بين الأكاديميين السوريين في الداخل والخارج.
(3) البحث عن تمويل لضمان استدامة المشروع على المدى البعيد.
يمكن أن يسهم هذا المشروع في سد العوز في التخصصات التعليمية وتعزيز الأبحاث المشتركة، ورفع مستوى المؤسسات الأكاديمية، والمساهمة في إعادة بناء قطاع التعليم العالي في سوريا.
يبدأ التقرير بمقدمة تطرح المشاكل التي تواجه التعليم العالي في سوريا، وتوضح المقدمة كذلك أي مشاكل بالتحديد سيركز التقرير عليها. بعدها ينتقل التقرير لعرض موجز لوضع التعليم العالي بما يتعلق بعدة نقاط محورية في تقييم التعليم العالي. ولتوضيح أهمية المشروع الذي نقترحه في هذا التقرير، نقدم عدة تجارب دولية مماثلة من بلدان عاشت تجارب مشابهة لتجربة الحرب في سوريا، واتخذت إجراءات مهمة في مرحلة إعادة بناء التعليم العالي. ينتقل التقرير بعدها لعرض فكرة المشروع ومراحل تطبيقه.
المقدمة:
لقد ترك القمع الذي مارسه النظام السابق أثرًا عميقًا على قطاع التعليم العالي في سوريا، حيث تراجع الاهتمام بتطوير المراكز البحثية والجامعات الحكومية أثناء حقبة حكم الأسد الأب والابن. وبدلًا من دعم القطاع العام في التعليم العالي، فُتح المجال أمام شبكات الفساد لتستجر المنافع المادية من قطاع التعليم العالي.
واجه التعليم العالي في سوريا العديد من التحديات، أولها تهميش قطاع التعليم العام أمام محاولات الخصخصة في العقدين الأخيرين، وغياب التمويل اللازم لتوسيع البنية التحتية، وافتقار البيئة الأكاديمية إلى الحرية العلمية الكفيلة بتطوير المناهج التعليمية. كما ساهم غياب استراتيجية واضحة على مستوى الوزارة نتيجة الفساد الإداري وضعف الحوافز في عرقلة تطور الجامعات العامة والخاصة التي لم تستثمر في تطوير البحث العلمي أو بناء شراكات دولية بسبب الحرب في العقدين السابقين.
وبما يتعلق بالحرية الأكاديمية، تعرض التعليم العالي مع اندلاع الثورة السورية لحملات قمع ممنهجة استهدفت الطلاب والأكاديميين الذين استخدموا أصواتهم للدفاع عن حقوق الشعب السوري، تزامنت هذه الحملات مع سياسات أوسع تهدف إلى تهجير الكفاءات العلمية، مما جعل قطاع التعليم العالي من بين الأكثر تضررًا، حيث هاجر عدد كبير من الأكاديميين والطلاب إلى الخارج، في حين نزح العديد من الكفاءات خارج البلاد.
الوضع الحالي:
فيما يلي نظرة عامة على الوضع الراهن، بالاعتماد على الأدبيات الحالية (1–4) :
- نزوح وهجرة العقول:
- النزوح القسري: نزح ملايين السوريين، بمن فيهم الطلاب والأكاديميون، يعطّل هذا النزوح التعليم، حيث يكافح الطلاب للوصول إلى الجامعات، وَيُجبَر الأكاديميون على الفرار، مما يؤدي إلى فقدان كبير للخبرات.
- هجرة العقول: غادر العديد من الأكاديميين والمثقفين سوريا بحثًا عن الأمان وفرص أفضل. أدَّت “هجرة العقول” لحرمان الجامعات السورية من أعضاء هيئة التدريس ذوي الخبرة، مما يعوق نقل المعرفة وتطوير أجيال المستقبل من العلماء.
- اضطراب المناهج ومخاوف الجودة:
- فجوات المناهج: أدّت الأزمة إلى تعطيل استمرارية التعليم، مما أدّى إلى وجود فجوات في معارف ومهارات الطلاب. تواجه الجامعات تحديًا يتمثل في معالجة هذه الفجوات وضمان حصول الطلاب على تعليم شامل. مثال على ذلك ما تحاول كلية الهندسة الطبيَّة في دمشق معالجته بنشر احتياجاتها لأكاديميين متخصصين من عقول سوريا في الخارج.
- انخفاض الجودة: عانت جودة التعليم بسبب التحديات المذكورة أعلاه، مثل الفصول الدراسية المكتظة، ونقص المدرسين في بعض المواد العلمية، والموارد المحدودة، كلها تُساهم في انخفاض المعايير الأكاديمية.
- دمار البنية التحتية وفقدان الموارد:
- الدمار واسع النطاق: خلّفت سنوات الصراع أثرًا من الدمار في حرم الجامعات، حيث تضررت أو دُمِّرت العديد من المباني، ونُهِبت بعض المكتبات، وأصبحت بعض المختبرات غير قابلة للاستخدام، يحد هذا الضرر المادي بشدة من قدرة المؤسسات على العمل بفعالية.
- نُدرة الموارد: أدّت الأزمة الاقتصادية إلى نقص حاد في الموارد الأساسية، بما في ذلك التمويل والمعدات والمواد التعليمية، يعوق هذا النقص قدرة الجامعات على توفير تعليم جيد وإجراء البحوث.
4 . الصدمات النفسية والقضايا الاجتماعية:
- التأثير النفسي: عانى العديد من الطلاب والأكاديميين من صدمات بسبب الصراع، مما يمكن أن يؤثر على أدائهم الأكاديمي ورفاههم. تحتاج الجامعات إلى توفير الدعم النفسي وتهيئة بيئة تعليمية داعمة.
- التشرذم الاجتماعي: أدّت الأزمة إلى تفاقم الانقسام الاجتماعي داخل سوريا، والذي يمكن أن يتجلى في البيئات الجامعية. تحتاج الجامعات إلى تعزيز الشمولية ومعالجة قضايا التمييز وعدم المساواة.
يقدم هذا التقرير مقترحاً لمشروع يساهم في معالجة المشكلتين الأولى والثانية بشكل مباشر، ويتفاعل نحو المشكلتين الثالثة والرابعة بشكل رديف.
التجارب الإقليمية والدولية:
التجربة الكورية الجنوبية (1970-1990)
عملت الحكومة الكورية الجنوبية أثناء مرحلة إعادة النهضة لكوريا الجنوبية على عدة خطوط تتعلق بالاستفادة من الخبرات الكورية خارج البلاد.
الشبكات الدولية
أنشأت الحكومة الكورية ودعمت جمعيات مهنية للعلماء والمهندسين الكوريين في الخارج، مثل جمعية العلماء والمهندسين الكوريين في أمريكا (KSEA)؛ لتسهيل الهجرة العكسية للأدمغة (RBD). كانت هذه الجمعيات التي تضم ما يقرب من 10,000 عضو بحلول عام 1990 بمثابة “تجمع أدمغة” للتطوير RBD في المستقبل، مما مكن من تبادل المعلومات والتواصل والتعاون بين المهنيين الأجانب والمؤسسات المحلية. قدمت الحكومة الدعم المالي لمباني المكاتب والندوات والمؤتمرات، وأدخلت نظام ملحقية علمية في السفارات الرئيسة لتعزيز العلاقات الدولية. وتم بالإضافة إلى ذلك تطوير نظام قاعدة بيانات محوسب في عام 1990م لمساعدة المؤسسات المحلية على الوصول إلى البيانات الحيوية للمهنيين الأجانب مما يكفل تدفقا مستمرا للخبرات.
يشبه هذا إلى حد كبير جهود المجلس العلمي السوري الذي يسعى إلى تعزيز الروابط بين الأكاديميين داخل سوريا وخارجها، ودعم الوزارة في إنشاء قاعدة بيانات شاملة من شأنها أن تعود بالفائدة على جميع الوزارات السورية.
تطوير السياسات
تطورت سياسات الهجرة العكسية للأدمغة في كوريا الجنوبية من العودة الدائمة إلى الوطن في الستينيات والسبعينيات إلى العودة المؤقتة إلى الوطن بحلول أواخر الثمانينيات ،مدفوعة بتشبع السوق والحاجة إلى المرونة. سمحت برامج مثل “إعادة العلماء والمهندسين إلى الوطن في مجالات التكنولوجيا العالية” و “نظام تجمع الأدمغة” للمهنيين الأجانب بالمساهمة في تنمية كوريا دون الانتقال الدائم. كما تحول التركيز من توظيف حاملي الدكتوراة إلى استهداف الفنيين والمهندسين ذوي الخبرة، لاسيما للشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم (SMEs)؛ لمعالجة نقص المهارات. وظهرت مع ذلك تحديات مثل الحفاظ على استقلالية البحث ومعالجة قضايا المساواة، مما تطلب من الحكومة الموازنة بين الحوافز للعائدين والإنصاف في مجتمع البحث والتطوير.
ينسجم نهج التعاون عن بُعد، الذي تقترحه في مشروعنا مع التقدم التكنولوجي في وسائل التواصل والتعاون عبر الحدود، مما يتيح مرونة أكبر في استقطاب الكفاءات، حتى ولو بشكل جزئي، خلال المراحل الأولى من إعادة الإعمار في سوريا، وعلى غرار التجربة الكورية في الثمانينات والتسعينات. أما التحوّل التدريجي من التركيز على حاملي الدكتوراة إلى استهداف الفنيين والتقنيين فهو بحد ذاته يمكن أن يكون نواةً لتوسيع المشروع بالتعاون مع وزارات أخرى مثل الصناعة والاقتصاد والزراعة؛ لتعزيز التنمية الشاملة.
التجربة الزمبابوية (بعد الاستقلال لبداية القرن الواحد والعشرين)
اعتمدت التجربة الزمبابوية نهجًا شاملاً للتخفيف من هجرة الأدمغة في زيمبابوي، يجمع بين مبادرات العودة واستراتيجيات الاحتفاظ بالكفاءات، وإشراك المغتربين، وتعزيز بناء القدرات المؤسسية.
مبادرات العودة: تضمنت برامج مثل برنامج عودة المواطنين الأفارقة المؤهلين (RQAN)، الذي أطلقته المنظمة الدولية للهجرة (IOM) بهدف تسهيل عودة المهنيين المهرة إلى وطنهم. إلا أن نجاح هذه المبادرات كان محدودًا بسبب قيود الميزانية والظروف السياسية والاقتصادية غير المستقرة.
استراتيجيات الاحتفاظ بالكفاءات: ركزت على خلق بيئة عمل مواتية تحفّز المهنيين على البقاء عبر تقديم حوافز مالية، وفرص بحثية، وثقافة عمل داعمة. على سبيل المثال، أظهرت شراكات أكاديمية مثل تلك التي بين جامعة هارفارد وجامعة مبارارا للعلوم والتكنولوجيا (MUST) في أوغندا (رغم عدم تطبيقها في زيمبابوي، إلا أنها تُعد نموذجًا قابلاً للتطبيق في سوريا) إمكانيات واعدة في الحد من هجرة المتخصصين في الرعاية الصحية عبر توفير الإرشاد الأكاديمي والتمويل البحثي.
إشراك المغتربين: تم تطوير برامج مثل “الهجرة من أجل التنمية في إفريقيا” (MIDA) و*”نقل المعرفة عبر المواطنين المغتربين” (TOKTEN)* لتعزيز التواصل بين الخبرات العالمية والاحتياجات المحلية. تدعم هذه البرامج مساهمة الشتات الزيمبابوي في التنمية.
يتقاطع النهج الذي اعتمدته زيمبابوي مع الهدف الأساسي لمشروعنا، لا سيما فيما يخص المهام قصيرة الأمد والمشاريع ذات الأهداف المحددة، مثل تدريس عدد من المحاضرات في مجال معين أو تطوير بحث علمي بالتعاون مع باحثين في الداخل.
كما تُبرز الدراسة أن مشكلات التمويل تُشكل عقبة رئيسة أمام استعادة الكفاءات بشكل دائم، نظرًا لجاذبية الفرص التنافسية في الخارج. يسعى مشروعنا من هذا المنطلق إلى تجاوز عقبة التمويل عبر التركيز على التعاون قصير الأمد والتواصل عن بعد في المراحل الأولى، مما يضمن استمرارية الاستفادة من الكفاءات دون الحاجة إلى التزامات مالية كبيرة في البداية.
توصيات الدراسة الزمبابوية
من أجل التصدي بفعالية لهجرة الأدمغة في زيمبابوي، اقترحت الدراسة إصلاحات شاملة للسياسات وإجراء بحوث هادفة:
أولاً: ينبغي على الحكومة إعطاء الأولوية للحكم الرشيد عبر تعزيز المساءلة والشفافية وسيادة القانون؛ مما يسهم في خلق بيئة مستقرة وجاذبة للمهنيين المهرة.
ينبغي أن تركز الإصلاحات الاقتصادية على خلق فرص عمل مستدامة، والاستثمار في القطاعات الاستراتيجية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي؛ لتحفيز المهنيين على البقاء في زيمبابوي أو العودة إليها.
ثانياً: يجب إضفاء الطابع الرسمي على مشاركة الشتات عبر شبكات مثل واجهة تنمية المغتربين في زيمبابوي (ZDDI) ومنتدى زيمبابوي العالمي (GZF)، مما يسمح بتعبئة الخبرات المهنية والتحويلات المالية والاستثمارات لدعم التنمية الوطنية.
ثالثاً: يعد الاستثمار في التعليم أمراً بالغ الأهمية لاستعادة قدرة زيمبابوي على الاحتفاظ بـالمهنيين المهرة وجذبهم. تعد إعادة بناء نظام التعليم وفقا لمعاييره العالية السابقة وتحسين البنية التحتية للرعاية الصحية خطوات أساسية.
رابعا: هناك حاجة إلى مزيد من البحوث لتقييم الأثر الاقتصادي والاجتماعي لهجرة الأدمغة وإجراء تدقيق للقوى العاملة لتتبع مهارات ومواقع المهنيين الزيمبابويين في الخارج. وتساعد هذه البيانات في تحديد السياسات القائمة على الأدلة، وتساعد في تحديد العائدين المحتملين. يمكن للتعاون مع المنظمات الدولية مثل البنك الدولي والمنظمة الدولية للهجرة واليونسكو أيضا أن يوفر الموارد والخبرات ومبادرات بناء القدرات، مما يضمن اتباع نهج مستدام لعكس هجرة الأدمغة وتعزيز التنمية طويلة الأجل.
تتوافق التوصيات الثانية والثالثة والرابعة الواردة في دراسة زيمبابوي إلى حد كبير مع الأهداف الرئيسة لمشروعنا في سوريا، ولاسيما فيما يتعلق بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والاستثمار في التعليم العالي والتقني والصحي. تسلط الدراسة الضوء بالإضافة إلى ذلك على أهمية بناء قاعدة بيانات متكاملة، والتي ستوفر للوزارة معلومات حيوية تمكّنها من تصميم وتنفيذ مشاريع مستقبلية أكثر فاعلية لدعم استقطاب الكفاءات وتعزيز التنمية المستدامة.
التجربة الفيتنامية (2000- 2015)
تعد فيتنام حالياً من أفضل الدول الصناعية في شرق آسيا وقد عانت من حرب طويلة في مراحل سابقة أنهكت البلاد، واستطاعت فيتنام النهوض بقوة، وفيما يأتي لمحة من الدراسة التي ناقشت موضوع الأدمغة في فيتنام.
تقدم التجربة الفيتنامية إطاراً لشرح نيات إعادة الاغتراب عبر دمج نظرية السحب والدفع مع صدمة الثقافة العكسية (RCS) ونظريات إعادة التكيف عبر الثقافات. توضح نظرية السحب والدفع كيف تؤثر العوامل الإيجابية في البلدان المضيفة (مثل الفرص الوظيفية) والعوامل السلبية في بلد المنشأ (مثل ظروف العمل السيئة في فيتنام) على قرارات العائدين. ومع ذلك، يذهب الإطار أبعد من ذلك عبر دمج الجوانب النفسية والعاطفية من خلال RCS وإعادة التكيف الثقافي، والتي تعالج التحديات التي يواجهها العائدون عند العودة إلى وطنهم.
فعلى سبيل المثال، قد يواجه العائدون اختلافات في ثقافة العمل أو يشعرون بالانفصال عن الأصدقاء والأسرة، مما قد يؤدي إلى عدم الرضا والرغبة في مغادرة البلاد مجددًا. يوفر هذا الإطار المتكامل فهمًا شاملًا للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تؤثر في قرارات إعادة الاغتراب، مما يجعله أداة تحليلية قوية لدراسة هذه الظاهرة.
تدعم هذه النقطة بشكل خاص نهج الزيارات القصيرة والتعاون عبر الحدود كبديل عن السعي الفوري لعودة الكفاءات إلى سوريا بشكل دائم، لاسيما في المرحلة الأولى. يتيح هذا النهج تحسين فرص الاستفادة من العقول السورية في الخارج، مع توفير بيئة أكثر مرونة تسهم في تحفيزهم تدريجيًا على العودة الدائمة إلى الوطن والمشاركة في إعادة بنائه.
مفهوم دوران الأدمغة
تقدم التجربة الفيتنامية كذلك مفهوم دوران الأدمغة الذي تجاوز المفاهيم التقليدية لهجرة الأدمغة (فقدان المواهب) واكتساب الأدمغة (عودة المواهب). تدرك الدورة الدماغية أن الأفراد المهرة قد يتنقلون ذهابا وإيابا بين البلدان عدة مرات أثناء حياتهم المهنية، مما يخلق تدفقا ديناميكيا للمعرفة والمهارات. يكتسب هذا النموذج أهمية خاصة في الاقتصادات الناشئة مثل فيتنام، حيث يعود بعض الأفراد حاملين معهم مهارات متقدمة وخبرات دولية، لكنهم قد يختارون المغادرة مجددًا إذا واجهوا صعوبات في إعادة الاندماج. يعكس دوران الأدمغة طبيعة التنقل الدولي المستمرة، حيث لا تُعد العودة إلى الوطن مرحلة نهائية، بل جزءًا من عملية متواصلة من التنقل والتكيف.
يتماشى هذا المفهوم مع رؤيتنا في تسهيل التعاون بين الداخل والخارج دون الحاجة إلى فرض عودة سريعة ومفاجئة قد لا تكون محفزة للبعض. بل نسعى بدلاً من ذلك إلى خلق بيئة مرنة تعزز المشاركة التدريجية، مما يتيح انتقالًا سلسًا وطبيعيًا لهذه الخبرات بما يخدم التنمية المستدامة.
نيات إعادة التوطين
تحدد التجربة الفيتنامية عدة عوامل تؤثر على نيات العائدين الفيتناميين في إعادة المغتربين (مغادرة فيتنام مرة أخرى) مثل عوامل الجذب في البلد المضيف: تشمل هذه العوامل تحسين فرص العمل والرواتب المرتفعة وجودة التعليم للأطفال، وهي عوامل تدفع العائدين إلى التفكير في العودة إلى الخارج بحثًا عن ظروف معيشية ومهنية أفضل.
عوامل الطرد في البلد الأصلي: تتضمن الرواتب المنخفضة، وظروف العمل غير الملائمة، وعدم الرضا عن جودة الحياة (مثل التلوث والازدحام المروري)، مما يدفع العائدين إلى مغادرة فيتنام مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك فإن تجارب العودة السلبية، مثل الصدمة الثقافية العكسية (صعوبة إعادة الاندماج في المجتمع الفيتنامي) وضعف إعادة التكيف بين الثقافات (الصراعات مع العمل والحياة الاجتماعية) تحفز العائدين على التفكير في إعادة الاغتراب. وتشكل هذه العوامل مجتمعة قرارات العائدين بمغادرة فيتنام بعد العودة.
نحاول في فكرة هذا المشروع مع إمكانية التعاون المتقطع والذي قد يعمل عن بعد أو عبر زيارات قصيرة لسوريا تجاوز هذه العوائق في فكرة مشروعنا.
أهداف المشروع المقترح:
- وضع إطار عملي لدعم وزارة التعليم العالي في تقييم احتياجات الجامعات وسد النقص في الكوادر التدريسية عبر الاستفادة من خبرات الأكاديميين السوريين في المهجر عبر وضع آليات تعاون عن بعد أو آليات لزيارة قصيرة الأمد هادفة بتنفيذ مشاريع محددة نافعة.
- تسهيل نقل المعرفة وتحديث المحتوى الأكاديمي بشكل مرن يدعم فكرة دوران الأدمغة.
- تعزيز الترابط بين الكوادر الداخلية والخارجية، مما يمهد الطريق لإيجاد شراكات أكاديمية مستدامة. والاستبقاء على فرص الاستفادة من الكوادر في الخارج في جذب شراكات دولية لاحقا إلى سوريا من خلال استمرار تواجدهم في الخارج مع زيادة ارتباطهم في الداخل.
الخطة الأولية للحل:
يمكن أن يتكفل المجلس العلمي السوري بتنفيذ أجزاء من هذه الخطة وبالتعاون مع وزارة التعليم العالي في تنفيذ الأجزاء المتبقية الشكل 1.
- الخطوة الأولى (مدتها شهران): سيقوم المجلس العلمي السوري بإنشاء استبيانين. الأول مخصص لفهم الاحتياجات الموجودة لدى الجامعات الحكومية والخاصة في كافة الاختصاصات والكليات والأقسام. أما عن الاستبانة الثانية فسيقوم به المجلس وينشره على صفحة الوزارة الرسمية لجمع معلومات عن الأكاديميين السوريين في الخارج، والراغبين في مساعدة الجامعات السورية العامة والخاصة في مرحلة إعادة الإعمار.
- الخطوة الثانية (مدتها شهر): ستكون هناك معالجة للنتائج باستخدام الذكاء الصناعي مبنية على التصميم الأساسي الاستبيان، حيث تكون هناك معالجة متخصصة للإجابات المتعلقة بإعطاء المحاضرات وتطوير المناهج، ومعالجة متخصصة بأفكار البحث العلمي والبنية التحتية البحثية. وبالتالي لن تكون عملية المعالجة بالاستناد على الاهتمام من قبل الأكاديميين الخارجيين وحسب، وإنما أيضا على الكفاءة، وربما على ملف تقديم موحد يسهل عملية معالجة النتائج باستخدام الذكاء الصناعي، ويسهل على الجامعات السورية تحديد أفضل الكوادر الراغبة في التعاون.
- الخطوة الثالثة (مدتها شهران): بناء على معالجة النتائج، ستكون هناك قائمة توزع على الكليات والأقسام في الجامعات العامة والخاصة المهتمة برفد كوادرها بخبرات خارجية بأسماء الأكاديميين ذوي الكفاءة والخبرة والقادرين على المساعدة في ذلك القسم أو في تلك الكلية.
- الخطوة الرابعة (مدتها شهر): ستكمل الجامعة مع الوزارة التسوية القانونية للدور الأكاديمي في الجامعة، وستكون في هذا البند تسهيلات قانونية لدعم فكرة دورة الأدمغة.
يمكن أن يساعد المجلس بناء على الاحتياج عبر شبكة علاقاته الداخلية والخارجية على تأمين دعم مالي لحركة وتنقل الأكاديميين الذين وصلوا إلى اتفاق مع الجامعات أو الكليات في سوريا. قد يكون هذا الدعم المالي خاصًّا بالقسم نفسه أو بالأكاديمي نفسه أو بالكلية نفسها، أو هو عام لكل المشاركين في هذا المشروع. ويملك أصحاب الفكرة هامشًا مبدئيًّا لتمويل داخلي موجه يمكن الحديث عنه مع الوزارة لاحقا.
الجدوى الاقتصادية والفوائد:
إن إنشاء شبكة من العلاقات بين الأكاديميين في الخارج والجامعات السورية، حتى وإن لم تحقق نتائج مباشرة وفورية في التعاون التعليمي والبحثي، فإنه يمثل خطوة أساسية في بناء جسور تواصل مستدامة، يمكن أن تتطور بمرور الوقت.
علاوة على ذلك، تتيح زيارات الأكاديميين إلى سوريا فرصة لتعزيز هذه العلاقات دون الحاجة إلى استثمارات مالية كبيرة، بل من خلال التنسيق الأمثل للوقت والموارد، مما يسهل التعاون العلمي والأكاديمي بطريقة مرنة وفعالة.
ستتمكن الجامعات السورية عبر هذه الشبكة من مواكبة آخر التطورات في البحث العلمي والتعليم عبر الاستفادة من خبرات وكفاءات السوريين في الخارج الذين حافظوا على ارتباطهم بالتقنيات الحديثة والمستجدات العلمية في مختلف التخصصات، مما يعزز تحديث المناهج الدراسية، وتطوير البحث العلمي، ورفع مستوى التعليم العالي في سوريا.
الشكل (1) يوضح الشكل آلية وخطوات تنفيذ المقترح
التحديات المحتملة:
- التأخير في تأمين التمويل: قد يشكّل توفير الموارد المالية اللازمة لتغطية تكاليف حركة الأكاديميين السوريين من الخارج إلى الداخل تحديًا، ولاسيما حال وجود إقبال كبير على المشاركة.
- القيود القانونية والإدارية في بعض الجامعات: قد تعيق نقص المرونة الإدارية والتشريعية في سوريا إمكانية استيعاب التعاون مع الأكاديميين في الخارج. يشمل ذلك التدريس عن بُعد، استقبال الأكاديميين خلال فترات الصيف، أو الإشراف المشترك على مشاريع بحثية للطلاب عن بُعد، مما يتطلب تعديلات تنظيمية لدعم هذا النوع من التعاون الأكاديمي.
- التحديات الاجتماعية: إن تعقيد الديناميكيات الاجتماعية بين المجتمعات المحلية والمهاجرين قد يخلق توترات وتحديات قد تؤثر على فعالية العملية.
التوصيات:
في حال رغبت وزارة التعليم العالي بتنفيذ المشروع بشكل مستقل دون الاستعانة بالمجلس العلمي السوري، فإننا استنادًا إلى دراستنا- نوصي بما يلي:
- إنشاء قسم خاص بالوزارة ضمن كادرها لإدارة التواصل بين الجامعات والأكاديميين في الخارج بما يجعل التعاون مضبوطًا وقانونيًّا من قبل الوزارة.
- وضع ملف مرتبط بتدريب يمكن للأكاديميّ الراغب بالتعاون مع الجامعات السورية الاطلاع عليه ليتضح له شكل وطبيعة التعاون، والابتعاد عن حصول أية مشكلة في التواصل أو أي تدخل بشكل يؤثر سلبا على العمل الرسمي في الجامعات السورية.
- إدارة نشر الاستبيانات مركزيًا من قبل إدارة المشروع في الوزارة؛ لضمان الشفافية وتسهيل جمع البيانات ومشاركتها بين جميع الأطراف المعنية.
- تصميم الاستبيان حيث يكون مدعومًا بتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ مما يتيح تحليل النتائج بسرعة وكفاءة دون الحاجة إلى التدخل البشري؛ مما يضمن دقة وموضوعية المعالجة.
- توضيح مفهوم مرونة التعاون ودوران الأدمغة عبر تقديم تدريبات للقائمين على المشروع، حيث تعمل الجامعات السورية على توفير آليات واضحة للتعاون، بما في ذلك فرص للزيارات القصيرة إلى سوريا، والتي يمكن أن ينظمها الأكاديميون في الخارج لدعم التعليم والبحث العلمي.
- تحديث وتسهيل الإطار القانوني لمثل هذه الشراكات، حيث يتم تقنين التعاون الأكاديمي بين الداخل والخارج ضمن نظام إداري رقمي ومحكم يضمن سهولة التنفيذ والاستدامة.
الخاتمة:
يقدم هذه التقرير مشروعاً يهدف إلى إشراك الأكاديميين السوريين في المهجر في إعادة بناء التعليم العالي في سوريا، وذلك لمواجهة التحديات الناجمة عن الحرب التي أدت إلى نقص حاد في الكوادر التعليمية وتدهور جودة التعليم العالي. بدأ التقرير بعرض المشاكل المراد حلها بالمشروع المقترح، قبل أن ينتقل لتقديم تقييم للوضع الحالي للتعليم العالي في سوريا، وعرض بعض التجارب المشابهة التي لا بد من الاستفادة منها من كوريا الجنوبية وزمبابوي وفيتنام. يقدم التقرير خطوات المشروع التي تتمحور حول ثلاثة أهداف رئيسة:
- وضع إطار عملي لدعم وزارة التعليم العالي في تقييم احتياجات الجامعات وسد النقص في الكوادر التدريسية عبر التعاون عن بعد مع الأكاديميين السوريين في الخارج.
- تسهيل نقل المعرفة وتحديث المحتوى الأكاديمي لتحسين جودة التعليم.
- تعزيز الترابط بين الكوادر الأكاديمية داخل سوريا وخارجها، مما يمهد الطريق لشراكات أكاديمية مستدامة.
يتناول التقرير كذلك التحديات الرئيسة للمشروع، مثل: نقص أو تأخر التمويل، وضعف البنية التحتية الرقمية، وصعوبة التنسيق بين الأكاديميين في الداخل والخارج. يركز المشروع لمعالجة هذه التحديات على إنشاء شبكة تواصل بين الأكاديميين، ووضع خطة تنفيذية بالتعاون مع وزارة التعليم العالي، والبحث عن تمويل لضمان استدامة المشروع.
تشمل الفوائد المتوقعة من المشروع سد الفجوات في التخصصات التعليمية، وتعزيز البحث العلمي، ورفع مستوى المؤسسات الأكاديمية. كما سيسهم المشروع في بناء جسور التواصل بين الأكاديميين في الداخل والخارج، مما يعزز فرص التعاون المستقبلي.
بشكل عام، يمكن لهذا المشروع أن يكون خطوة مهمة نحو إعادة بناء التعليم العالي في سوريا من خلال الاستفادة من خبرات الأكاديميين السوريين في المهجر.
المراجع:
- Syria situation | Global Focus [Internet]. [cited 2025 Feb 25]. Available from: https://reporting.unhcr.org/syria-situation-global-report-2022
- Cinkara E. Navigating higher education in conflict zones: the role of professional capital and community engagement in northern Syria. Journal of Professional Capital and Community. 2024 Dec 3;9(4):309–19.
- Syrian higher education system facing “complete breakdown” after eight years of war – study | University of Cambridge [Internet]. [cited 2025 Feb 25]. Available from: https://www.cam.ac.uk/research/news/syrian-higher-education-system-facing-complete-breakdown-after-eight-years-of-war-study
- Yoon BSL. Reverse brain drain in South Korea: State-led model. Stud Comp Int Dev [Internet]. 1992 Mar [cited 2025 Feb 26];27(1):4–26. Available from: https://link.springer.com/article/10.1007/BF02687102
- (PDF) From Brain Drain to Brain Gain: Addressing Human Capital Needs for Post Crisis Zimbabwe’s Capacity Building [Internet]. [cited 2025 Feb 26]. Available from: https://www.researchgate.net/publication/304088756_From_Brain_Drain_to_Brain_Gain_Addressing_Human_Capital_Needs_for_Post_Crisis_Zimbabwe’s_Capacity_Building
- Ho NTT, Seet PS, Jones J. From brain drain and brain gain to brain circulation: Conceptualizing re-expatriation intentions of vietnamese returnees. Higher Education Dynamics [Internet]. 2018 [cited 2025 Feb 26];51:217–34. Available from: https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-319-78492-2_12
المؤلفين:
د. طاهر حتاحت: أستاذ مشارك في جامعة بانغور بريطانيا.
د. أمل الأشقر: أستاذة في جامعة كاليفورنيا.
د. أيهم أبازيد: دكتوراه في الكيمياء العضوية.
د. أحمد أحمد البركات المسالمة: دكتوراه في الكيمياء العضوية وتطوير الحفازات.
المراجعة العلمية:
د. عدي طوزان