المزيد
من الخيارات

 سلسلة التّراث الثّقافي في سورية: من الدمار إلى التجديد

 سلسلة التّراث الثّقافي في سورية: من الدمار إلى التجديد
التصنيف: لجنة الآثار والتراث الثقافي
تاريخ النشر مايو 5, 2025
المحرر: Rannem Bakir

منهجيات تقييم أضرار التّراث الثّقافيّ في سورية

أثار ذلك مخاوف محلّيّة وإقليميّة ودوليّة بشأن خسارة محتملة لا رجعة فيها للتّراث المشترك للإنسانيّة. 

حيثُ أنّ فقدان التّراث الثّقافي (بشكل خاص: المباني الأثريّة) يُسلّط الضوء على التأثيرات الأوسع نطاقاً للتدمير الثّقافي، بما في ذلك تآكل التماسك الاجتماعي، والتداعيات الاقتصاديّة على السّياحة، فضلاً عن الآثار النفسيّة الطويلة الأمد على السكان المحليين المتضرّرين.

وفي ظل التطورات الميدانيّة الأخيرة التي أسهمت في انتصار الثورة السّوريّة وتحقيق المطالب الشعبية بإسقاط نظام البعث في سورية بتاريخ ٨ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، تعالت الأصوات في المنصّات الأكاديميّة وأروقة منظمات المجتمع الدّوليّ حول أهمية إنتاج معرفة محلّيّة متخصّصة بتقييم حجم ومدى الأضرار التي لحقت بالتّراث الثّقافيّ وخصوصًا المواقع الأثريّة والمتاحف في سورية. 

بناءً على ذلك، وسعيًا لإنتاج معرفة متخصّصة بتقييم حال التّراث الثّقافيّ في سورية، أعدّ أعضاءُ فريق عمل لجنة الآثار والتّراث الثّقافيّ سلسلة من أوراق العمل، ستُقدّم ضمن مجموعة أوراق سياسات للمجلس العلمي السوري. تتناول الورقة الأولى منهجيات تقييم الأضرار باستخدام مقاربة متعددة التخصّصات، تجمع بين مختلف الوسائل التقنية المتقدمة واستراتيجيات التحليل الميدانيّ للأضرار.

أهمية وملخص الورقة:

يُمثل التراث الثقافي السوري، بشقّيه الماديّ واللاماديّ، ثروةً لا تُقدر بثمن، ليس للشعب السّوريّ فحسب، بلّ للإنسانيّة جمعاء. فسورية، مهد الحضارات القديمة، تحتضن آلاف المواقع الأثريّة والتاريخيّة التي تشهد على تعاقب الحضارات على أرضها منذ فجر التاريخ. ويعكس هذا التراث الغنيّ تنوّع الهويّة الثقافيّة السوريّة وثراءها، كما يُشكّل جزءًا جوهريًا من الذاكرة الجمعيّة لمجتمع سوريّ متعدّد الهويات والأعراق والأديان والطوائف.

شهد التراث الثقافي السوري خلال سنوات النزاع (2011-2024) واحدة من أقسى الكوارث الثقافية في العصر الحديث، حيث تعرّض لاعتداءات ممنهجة متعددة الأشكال، إلى جانب عمليات نهب منظّمة طالت العديد من القطع الأثريّة وجرى بيعها في السوق السوداء، ما أدّى إلى فقدان آلاف القطع الأثريّة النادرة من المتاحف والمخازن. كما شهدت البلاد حملةً ممنهجةً لاستهداف التراث الثقافي من قبل تنظيم داعش، حيثُ تعمّد تدمير مواقع أثرية رمزية مثل معبد بل في تدمر والواجهة الرومانية للمسرح التدمريّ (صورة ١)، إضافةً إلى تفجير العديد من المواقع الأثرية بعد تفخيخها، في محاولةٍ لمحو الرموز الثّقافيّة والتاريخيّة للمنطقة. 
 لا يقتصر تأثير فقدان التّراث الثّقافي على الجانب الماديّ فحسب، بل يمتد ليشمل التّراث اللاماديّ، والجوانب الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والنفسيّة. فالتّراث الثّقافي يلعب دوراً محوريّاً في تعزيز التماسك الاجتماعيّ وتقوية الشعور بالانتماء والهويّة المشتركة، كما أنّه يمثل مورداً اقتصاديّاً مهمّاً من خلال السّياحة الثّقافيّة. وقد أدّى تدمير هذا التّراث إلى تفكك البنية الاجتماعية تدريجياً وخسائر اقتصاديّة فادحة فضلاً عن صدمات نفسيّة عميقة للسّكان المرتبطين بهذا الموروث. 

في خضم التطورات الميدانية الأخيرة، برزت تحدّيات جديدة تتعلق بأمن المواقع الأثريّة، إذ لا يزال بعض هذه المواقع مهدّداً بوجود ألغام ومتفجّرات غير منفجرة، ولا سيّما في المناطق النائية، ويُعيق هذا الواقع الوصول الآمن للفرق الفنية وجهود التّوثيق والتّقييم، كما يشكّل خطراً مباشراً على السكّان المحليين والزوار على حدّ سواء.

 في ضوء هذه التحديات، من الضروري إجراء تقييم منهجي شامل للواقع التراثي في سورية، يشمل تحليلاً دقيقاً لحجم الدمار، وطبيعته، ومداه، بالإضافة إلى تحديد أولويات التدخل وفقاً لمستويات الضرر والمخاطر المحيطة بكلّ موقع. تقدّم هذه الورقة البحثية ضمن سلسلة أوراق السياسات الإطار العلمي والمنهجي اللازم لهذا التقييم إطار متكامل لتقييم الأضرار، يتضمّن أدوات لتقييم حالة المواقع الأثرية ومعايير التصنيف، بما يضمن الحفاظ على هذا التّراث، واستعادته، كجزء من مشروع وطنيّ جامع لإعادة إحياء التراث السوري وهويته الثّقافيّة.

منهجيات تقييم الأضرار للمواقع التّراثيّة والأثريّة: 

يمثل تقييم الأضرار للتّراث الثقافي، وبشكل خاص في المواقع الأثريّة، حجر الأساس في تطوير استراتيجيات فعّالة في تحديد أولويّات التدخّل، والحماية، وإعادة التأهيل. وتتنوّع المنهجيات المعتمدة في هذا المجال لتشمل التوثيق البصري الميداني، والمسح الرقمي ثلاثي الأبعاد، وتحليل المواد والإنشاءات، إلى جانب أدوات التقييم السريع المُستخدمة في حالات الكوارث والطوارئ. كما تُوظّف مؤشرات كميّة ونوعيّة لرصد درجة التدهور، مع الاستفادة من أدوات نظم المعلومات الجغرافيّة (GIS) لتحليل وتحديد المواقع الأكثر تضرراً. ويُشكّل إشراك المجتمعات المحليّة في عمليات التقييم عنصراً محورياً لتعزيز الفهم والسياق الثّقافي للأضرار. إن تطوير أطر منهجية موحدة، قائمة على الأدلة وقابلة للتطبيق في سياقات متنوّعة، يُسهم بشكل مباشر في تعزيز قدرات الاستجابة وحماية التّراث الثّقافي المعرّض للخطر. وفيما يلي استعراض لأبرز هذه المنهجيات:

التّقييم عن بعد

في ظل التحديات الميدانية التي تعيق الوصول المباشر إلى العديد من المواقع بسبب الظروف الأمنية أو تدهور البنية التحتيّة المتضررة، تكتسب منهجيات التّقييم عن بعد أهمية خاصة. ويُعدّ تحليل صور الأقمار الصناعيّة من أبرز هذه المنهجيات، إذ يُتيح تحليل صور الأقمار الصناعيّة عالية الدقة وتتبّع التغيرات التي طرأت على المواقع الأثريّة قبل النزاع وخلاله وبعده. وفي هذا السياق، طوّرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثّقافة (اليونسكو) بالتعاون مع معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR)، منهجية لتّقييم الأضرار في مدينة حلب القديمة عام 2016، استندت إلى صور الأقمار الصناعيّة الملتقطة قبل وقوع الضرر وبعده، بهدف تحديد حجم الأضرار بدقّة.

التّقييم الميداني 

عند توفر الظروف الأمنية، يظلّ التّقييم الميدانيّ المباشر المنهجيّة الأكثر موثوقيّة ودقّة لتشخيص الأضرار في المواقع التراثية. ويشمل ذلك:

  • المسح البصريّ: يتضمن فحص المبانيّ والمواقع الأثريّة بصرريًّا لرصد الأضرار الظاهرة، مثل التصدّعات والانهيارات والتلف السطحي.
  • التصوير الفوتوغرافيّ والتّوثيق: يوثّق الأضرار من خلال الصور الفوتوغرافيّة ومقاطع الفيديو، مع تحديد موقع كلّ ضرر وطبيعته وحجمه. ويُستخدم في ذلك تقنيّات مثل نظم تحديد المواقع العالميّة (GPS) أو نظم المعلومات الجغرافيّة (GIS)، كما يمكن الاستعانة بطائرات (الدرونز) للمسح الجوي.
  • المسح ثلاثي الأبعاد: يُستخدم في هذا الأسلوب تقنيات المسح ثلاثي الأبعاد، مثل المسح التصويري (الفوتوغرامتري) لإنشاء نماذج رقمية دقيقة للمبانيّ والمواقع الأثريّة، التي بدورها تتيح تقييم الأضرار بدقة عالية.

منهجية متعددة المستويات لتقييم الأضرار

نظراً للتنوع الكبير في المواقع التّراثيّة والأثريّة في سورية وتباين مستويات الأضرار التي لحقت بها وإمكانيّات الوصول إليها، نقدم منهجية تقييم هرمية متدرجة تعتمد على خمسة مستويات متكاملة:

المستوى الأول: جمع شامل للوثائق والمعطيات المتوفرة لدى الجهات المعنية (المديرية العامة للآثار والمتاحف ومديريات الأوقاف والمدن القديمة مثلاً) من صور فضائية ومسح ميدانيّ ونماذج ثلاثيّة الأبعاد انطلاقاً للمستوى الثاني.

المستوى الثاني: التّقييم الشامل عن بعد: إجراء تقييم أولي لجميع المواقع المعروفة باستخدام صور الأقمارالصناعيّة وتقنيّات الاستشعار عن بعد، بهدف تحديد المواقع المتضرّرة وتصنيفها وفقًا لدرجة الضرر الظاهر.

المستوى الثالث: التّقييم الميدانيّ السريع: إجراء زيارات ميدانية سريعة للمواقع التي يمكن الوصول إليها، بهدف تقييم الأضرار بشكّل مباشر وتحديد المواقع التي تتطلّب تدخّلًا عاجلًا.

المستوى الرابع: التّقييم الميدانيّ المفصل: إجراء تقييم ميدانيّ معمّق للمواقع ذات الأولويّة، يشمل المسح ثلاثي الأبعاد، من أجل توفير معلومات دقيقة تدعم وضع خطط التّدعيم، وإعادة التأهيل والتّرميم.

المستوى الخامس: التقييم والرصد المُستدام: تطوير نظام للرصد المستمر والتقييم لحالة المواقع المتضرّرة، يتضمّن تتبّع تطور الأضرار والانتهاكات الحاليّة ومدى فعالية التدخّلات المتّخذة.

الخاتمة والتوصيات النهائيّة: 

يُشكّل التراث الثقافي السوري نسيجاً حيوياً للهوية الوطنية وذاكرةً حاضنةً لتعددية المجتمع السوري، وهو إرثٌ إنساني عالمي تتشارك في حمايته البشرية جمعاء. وقد تعرّض هذا التّراث القيّم خلال فترة النزاع المسلّح لأضرار جسيمة طالت معالمه الماديّة، وهدّدت رمزيّته وقيمته اللاماديّة. وفي إطار الجهود الرامية إلى إنتاج معرفة متخصّصة بالتّراث الثقافي في سورية، قدّمت هذه الورقة، إطاراً منهجياً متكاملاً لتقييم الأضرار من خلال توظيف منهج متعدد التخصصات يجمع بين مختلف الوسائل التقنية المتقدمة واستراتيجيات التحليل الميداني.

إن تقييم حجم الأضرار واتّخاذ الإجراءات اللازمة لحماية ما تبقّى من التّراث وإعادة تأهيله، يُعدّان من أولويّات في المرحلة القادمة في عمليّة إعادة بناء سوريّة وهويّتها. استنادًا إلى ما سبق، نقدّم التوصيات التالية:

  • إنشاء الهيئة الوطنيّة العليا لحماية التراث الثقافي السوري، تضم هذه الهيئة ممثلين عن جميع الجهات المعنية، وتُناط بها مهام وضع السياسات والاستراتيجيات، وتنسيق الجهود في مجال حماية التّراث وترميمه وإعادة إعماره.
  • دمج التراث الثقافي في خطط التعافي وإعادة الإعمار، والتأكيد على إدماج حماية وإعادة تأهيل المواقع التّراثيّة ضمن الخطط الوطنية لإعادة الإعمار والتّنمية، وعدم التعامل مع التّراث بوصفه عنصراً ثانوياً أو منفصلاً عن مسار إعادة بناء الدولة والمجتمع.
  • تنفيذ مسح شامل للمواقع التّراثيّة والأثريّة المتضرّرة، باستخدام منهجية متعددة المستويات تجمع بين التّقييم عن بعد والتّقييم الميداني، بهدف توفير قاعدة بيانات دقيقة حول حجم الأضرار وطبيعتها.
  • إنشاء قاعدة بيانات للمواقع المتضرّرة والمُرمّمة تشمل هذه القاعدة معلومات تفصيليّة حول المواقع والمباني التي خضعت للتقييم أو الترميم، سواءً جزئياً أو كلياً، وتوثّق حالة المواقع غير المشمولة في مشاريع سابقة، لضمان عدم تكرار الجهود وتعزيز التنسيق بين الفاعلين.
  • وختاماً، إنّ الحفاظ على التراث الثقافي في سورية ليس مسؤولية الحكومة وحدها، بل هو مسؤولية تشاركية تقع على عاتق الأفراد، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسّسات الرسمية الوطنيّة والإقليمية والدوليّة. إذ يمكننا من خلال العمل المشترك والجهود المتضافرة، تقييم الأضرار الطارئة على هذا التّراث الثمين، وإعادة بناء الذاكرة الجمعية لسورية والتي تعرضت للتهديد خلال سنوات النزاع الطويلة. 
  • في هذا السياق، يمكن للمجلس العلمي السوري أن يساهم بتقديم استشارات دورية وورشات عمل تجمع صانعي السياسات والمنفّذين من أجل ضمان الوصول للحالة المثلى من تطبيق ممارسات فعالة في تقييم الأضرار. من خلال العمل المشترك والمنسّق بين المؤسّسات الحكوميّة، المنظمات الدّوليّة، الخبراء، والمجتمعات المحلّيّة، يلعب دوراً رئيسياً   في تحويل العمل في مجال التراث الثقافي إلى قوة دافعة لتحقيق الاستقرار وبناء السلام والتنمية المستدامة، مما يساهم في بناء مستقبل أكثر إشراقاً يستند إلى احترام الماضي وتوظيفه في خدمة الحاضر والمستقبل.


المؤلفون

د. نور الله منّور
د. هبة الخلف
د. إسبر صابرين
د. مياسه ديب
د. زينا عوض

المراجعة العلمية:
د. عبد الرزاق معاذ

التدقيق اللغوي:
محمد كرم

تم النشر ضمن لجنة الآثار والتراث الثقافي
السابق
كل المقالات
التالي